رحلة الضوء والظل - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني

رحلة الضوء والظل
نضال الشوفي - 04\01\2008

ينتاب البعض أحياناً، حيال صورة ما، شعور بأنها واقع حي تنقصه الحركة أو الصوت، رغم أن تلك الصورة لا تتعدى كونها محاكاة للواقع مجسداً فوق قطعة ورق ثلاثية الأبعاد. ولا شك أن العامل الأهم المشترك بين الواقع الحي والصورة الفوتوغرافية أو اللوحة التي تبث فينا الوهم أحياناً بأنها يجب أن تنطق، هما الضوء والظل اللذان يتوزعان بنسب ودرجات متفاوتة فوق كل ما نراه، فلا تعدو الصورة الفوتوغرافية أن تكون تسجيلاً للضوء والظلال. ما جعل البعض يطلقون على هذا الفن مصطلح التصوير الضوئي، كون الصورة تنقل لنا تسجيلاً لانبعاث الضوء من مصدر رئيسي تمثله الشمس في ساعات النهار، والمصابيح الاصطناعية أثناء الليل. ويشارك في هذا التشكيل أضواء ثانوية منعكسة إلى داخل المنظر الذي نريد تصويره.
إن الالتفات الأول لأهمية الضوء يعود إلى العصر اليوناني القديم، الذي أخذنا عنه المصطلح الآخر photograph المشتق من كلمتين إغريقيتين تعني الأولى منهما photo الضوء، وتشير لإله الضوء عند اليونان photos . أما الثانية graph فتعني سجل أو تسجيل. لكن الخطأ الذي ساد واستمر إلى عصور لاحقة تمثل في الاعتقاد بأن أشعة الضوء تنبثق عن العين منطلقة إلى الأجسام حتى تصطدم بها. الأمر الذي يؤدي إلى الإحساس بالرؤية. وظلت هذه الفكرة سائدة حتى جاء ( أبو الحسن بن الهيثم ) أحد علماء البصريات العرب الكبار، واستنتج في القرن الحادي عشر، أن الضوء ينبثق من الأجسام في خطوط مستقيمة حتى يصطدم بالعين فيثير الإحساس بالرؤية. كما قسم الأجسام إلى قسمين:
_ أجسام مضيئة في حد ذاتها، كالمصباح والشمس، واعتبرها مصادر للضوء
_ أجسام مضاءة بغيرها من المصادر الأولى.
هذه الاستنتاجات فتحت أبوابا للبحث في ماهية الضوء، والشكل الذي ينتقل فيه، وطبائعه الفيزيائية، كما نحّت جانباً الحوائل التقنية أمام الانطلاقة الأولى لفن التصوير الضوئي الوليد. فصار في متناول أيدي الفنانين منذ القرن الخامس عشر غرفة التصوير المظلمة، التي من جائز القول أن نسميها الكاميرا الأم، أو آلة التصوير الأم. لقد كانت هذه الأم كبيرة بحجم غرفة منزل. لذلك تزايد الاهتمام بصنعها من خشب خفيف الوزن، كي يتسنى نقلها من مكان إلى آخر. استحدثت في أرضيتها فتحة صغيرة يدخل منها الفنان، ثم تغلق باهتمام لمنع تسرب الضوء للداخل. كما استحدث في الحائط المقابل للمشهد الذي تم اختياره ثقب صغير يمر من خلاله الضوء ويسقط فوق سطح عامودي شبه شفاف يقف الفنان وراءه ليرسم المشهد الإهليجي قليلاً ، والمشوش قليلاً، والمقلوب رأساً على عقب، لأن الخطوط المستقيمة للضوء المار في ثقب الحائط تعكس الأجزاء العليا من المشهد في أسفل الصورة. وتستقر خطوط الضوء المنعكس عن أسفل المشهد في الجزء العلوي للصورة. وهو تماماً ما يحدث في عملية الإبصار، إذ أن خطوط الضوء المستقيمة تخترق قرنية العين لتستقر فوق الشبكية بصورة مقلوبة، حيث يقوم المخ بتحليل وتعديل ما نراه.
شد ابتكار الغرفة المظلمة اهتماماً كبيراً في أوساط الفنانين، حتى أن " ليوناردو دافينشي " أثارته الحماسة فأوصى في العام 1490 م بمراقبة المشاهد المضيئة التي ترسم داخلها. وما أن أدخل " دانييل بربارو "في العام 1530 م الحدقة ( الديافراجم ) وهي آلية للتحكم باتساع الفتحة التي يمر منها الضوء، ثم تلاه " جيروم كاردان " في العام 1550 م بإدخال العدسة البصرية المحدبة الوجهين لتصحيح التشوهات في الرؤية. بات بالإمكان الحصول على صورة واقعية ساعدت الفنانين في حل مشكلة المردود الصعب للمنظور، ولالتقاط التشابه بين المشاهد والأشياء على سطح ذي بعدين. ومع التطور التقني المطرد، واكتشاف إمكانات المحاليل الكيميائية في تظهير وتثبيت الصورة، انقلبت هذه المساعدة التي قدمتها الغرفة المظلمة للمصورين إلى جدل حول الجدوى من الجهد الذي يبذلونه في رسم مشهد واقعي يستطيع فن التصوير الضوئي الوليد تقديمه بيسر، ودقة في محاكاة الواقع. كما تغيرت أيضاً طريقة رؤية الناس للوحات التي رسمت قبل ذلك.
كانت اللوحات في الأساس جزءاً تكاملياً من البناء الذي رسمت لأجله، ويشعر الإنسان أحياناً في كنائس أو قباب عصر الرينسانس المبكر أن التصاوير على الجدران هي تسجيل للحياة الداخلية للبناء، وأنهما معاً يشكلان ذاكرة البناء. إلى هذه الدرجة كانت اللوحات جزءاً من خصوصية البناء. كان تفرّد كل لوحة في الماضي جزء من تفرد المكان الذي عاشت فيه. أحياناً كانت اللوحات قابلة للنقل، ولكن كان مستحيلاً رؤيتها في مكانين في آن واحد. وعندما أعادت الكاميرا إنتاج اللوحة، ألغت تفرّد صورتها، وبالتالي تغيّر معناها، أو للدقة تعددت وتشظّت إلى عدة معان.
هذا التعدد والتشظي قد يستمر في الانفلاش مبتعداً بالصورة المستنسخة عن الأصل لدرجة إلغاء الشبه أو الارتباط كلياً أو جزئياً بينهما. فالتصوير لا ينتهي بمجرد النسخ الميكانيكي للصورة الأصل ما دامت الإمكانات التقنية قد وصلت حد التكبير في مختلف المقاسات، تكبيراً كلياً أو جزئياً لمفردة تقتطع من الصورة. أو التلاعب بنسب الظل والنور في كل مرة لحساب أو على حساب عنصر منهما. أو في إلغاء وضوح التفاصيل، أو التلاعب في درجات ومساحات اللون. إذاً بات بالإمكان إنتاج آلاف النسخ، بل إن الآلاف لا تعبر عن حدود الممكن الذي " لا يعود فيه معنى اللوحة ملازماً لها، ويصبح قابلاً للتحول ".
" أي أن الأعمال الفنية تصبح نوعاً من المعلومات، إما أن تستعمل أو تهمل. فالمعلومات لا تحمل أي سلطة بحد ذاتها. عندما يتم استعمال لوحة ما فإما أن يتحوّر معناها، وإما أن يتبدل نهائياً، يجب أن يكون واضحاً تماماً ما يترتب على هذا التدخل. المسألة لا تعني فشل الاستنساخ في إعادة إنتاج عناصر محددة بشكل أمين، إنما المسألة أن الاستنساخ يجعل من الممكن، بل من الحتمي، أن يتم استخدام الصورة لأغراض متعددة. النسخة بخلاف العمل الأصلي، يمكن أن تمنح نفسها لجميع الأغراض ".
إن تشبيه الأعمال الفنية بالمعلومات ليس مجازياً على الإطلاق، ما دامت آلة التصوير تبتعد في مقدار حجمها، وإمكاناتها عن الكاميرا الأم، تصغر وتزداد سرعة في الحركة والانتقال من مكان إلى آخر. تكون متحفزة حيال الأحداث والظواهر، وتتقن اختلاس اللقطات.
يقول المخرج السينمائي الروسي "دجيفا غيرتوف" على لسان الكاميرا:
"أنا عين، عين آلية، أنا آلة، أريك عالماً بطريقة لا يقدر غيري على الرؤية بها. أنا أحرر نفسي اليوم، وإلى الأبد من السكون الإنساني. أنا في حركة دائمة، أقترب وأبتعد عن الأشياء، أزحف تحتها. أتحرك بمحاذاة فم حصان يركض. أختفي وأظهر مع اختفاء الأجسام. هذا أنا الآلة. أناور بين فوضى الحركات. أسجل الحركة تلو الأخرى في أكثر التراكيب تعقيداً. متحررة من قيود الزمان والفضاء. أوفق بين نقاط الكون، حينما أريدها أن تكون. طريقتي تقود إلى خلق استيعاب نضر للعالم. هكذا أنا أفسر لك العالم الذي لا تعرفه بطريقة جديدة ".
هكذا إذاً تتكلم الكاميرا، فهل تبالغ في وصف إمكاناتها؟ هل تقول ذلك لمجرد الزعم والتباهي ؟ ما علينا للتأكد من صدق ذلك سوى التقاطها بلطف، والتنقل برفقتها كي نكتشف من فينا يقود الآخر.
عقب على المادة

لا توجد تعقيبات حاليا